تحقيقات وملفات

لقاء «مرسى» و«العقدة».. «نزيف الاقتصاد».. ما لم تعلن عنه الرئاسة فى الحوار الثنائى.. محافظ البنك المركزى: «الجنيه فى خطر».. و«الاحتياطى النقدى» يتلاشى.. وموجة غلاء متوقعة.. والحل فى الاستقرار السياسى

الجمعة، 21 ديسمبر 2012 11:12 ص

كتب - أحمد يعقوب

جانب من اللقاء - صورة أرشيفية

نقلاً عن اليومى

وسط مشهد حصار قصر الاتحادية الرئاسى. وخيام اعتصام مناهضى «دستور مرسى»، ووضع سياسى متأزم، ينظر الدكتور فاروق العقدة، محافظ البنك المركزى، من نافذة سيارته الفارهة وهو يدخل إلى القصر الفخيم، لا يتذكر كم عدد المرات خلال 9 سنوات، وعصور شتى، حاملًا حقيبة تحتوى تفاصيل وأوراقا وأفكار اقتصاد منهك يعانى من الفساد خلال عقود وسنوات طوال، ويوشك أن ينهار الآن، محدثًا نفسه قبل مقابلة رئيس الدولة: الموقف الاقتصادى يزيد المشهد السياسى تعقيدًا.. المسؤولية أصحبت ثقيلة.. خزائن البنك المركزى فقدت خلال عامين فقط، وبعد ثورة نادت بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية نحو 21 مليار دولار من «احتياطى الأزمات».. وظللت أدافع عن الجنيه المصرى وتراجعه المستمر أمام الدولار، حتى قارب الاحتياطى على التلاشى.. موجة غلاء متوقعة سوف تطال السلع والمنتجات التى تستورد مصر %60 منها من دول العالم شرقًا وغربًا.. ما المخرج؟، هى الحقيقة لا غيرها التى لا بد أن يقولها للرئيس، وبعدها فليقض الله أمرا كان مفعولا، فالاستقالة وإزاحة عبء مسؤولية ثقيلة تراوده وتضغط عليه، فقد فعل طوال العامين الماضيين كل ما فى وسعه متسلحا بخبرته وكفاءته المصرفية لإنقاذ مصر من كارثة مازالت تطل بين الحين والآخر بملامحها الكئيبة والمزعجة، لكنه على استعداد بوازع ضميره الوطنى أن يستمر فى منصبه إلى حين ليس ببعيد إذا رفض الرئيس استقالته.

قبل ذلك بساعات قليلة جلس الدكتور فاروق العقدة فى مكتبه بشارع الجمهورية بوسط القاهرة، بعد أن تم إبلاغه من قبل مسؤولى «القصر الرئاسى المحاصر» الذى يقع فى ضاحية مصر الجديدة بلقاء سوف يجمعه مع الدكتور محمد مرسى، رئيس الجمهورية، والدكتور هشام قنديل، رئيس مجلس الوزراء، صاحب الخبرات الاقتصادية المحدودة، للحديث عن أوضاع الاقتصاد المصرى.. وهو فى حيرة من أمره، يجمع حقائق وأرقام الاقتصاد الذى يعانى من نزيف حاد لموارده الدولارية، المكون الرئيسى للاحتياطى النقدى، والتراجع المستمر لسعر صرف الجنيه أمام الدولار.. وأخذ يفكر: كيف لى أن أعرض حقائق الاقتصاد المريرة على «رأس الدولة»؟.. المسؤولية أصبحت ثقيلة.

فى بهو القصر الفخم استقبل الرئيس محافظ البنك المركزى وفى معيته هشام قنديل، رئيس الحكومة، الذى حاول إقناع «العقدة» قبل اللقاء بالرجوع عن موضوع الاستقالة، جلس الثلاثة وبعد كلمات الترحيب والود، ران صمت لم يطل طويلا، فالوضع لا يحتمل والكلام الواضح والصريح والحاد فى بعض الأحيان هو النجاة من حمل ثقيل لا يحتمله كاهل المحافظ. وكان اللقاء.. وسأل «مرسى»، «العقدة»، عن وضع الجنيه والاحتياطى الأجنبى فى ظل المشهد السياسى المعقد؟

لم يتردد الدكتور فاروق العقدة فى الإجابة، فالذهن حاضر والأرقام ذات الدلالة حاضرة، وبادر على الفور: سيادة الرئيس احتياطى النقد الأجنبى يبلغ حاليًا 15 مليار دولار، ويكفى لاستيراد السلع الأساسية لـ3 أشهر فقط، ولن نستطيع أن ندافع عن الجنيه بمزيد من ضخ السيولة الدولارية من الاحتياطى، وقرض صندوق النقد الدولى، «طوق النجاة» والمحاولة الأخيرة للصمود، قبل انهيار الاقتصاد.. الاستقرار السياسى وهدوء الأوضاع فى الشارع المصرى، وعودة الأمن، وبرنامج اقتصادى صارم، من المتوقع أن يثير غضبًا جماهيريًا كبيرًا، أساس منح هذه المؤسسة الدولية لحزمة مالية بـ4.8 مليار دولار، تسهم فى استعادة الاقتصاد المصرى لثقة العالم مرة أخرى.

أما عن وضع الجنيه، ومازال الكلام لـ«العقدة» موجها للرئيس: الجنيه المصرى فقد نحو 40 قرشًا منذ الثورة وحتى الآن، أمام الدولار الأمريكى، وهو متروك لقوى العرض والطلب، ومستوى مقبول للتراجع فى ظل الأزمات السياسية التى مرت بها البلاد خلال الشهور الماضية، والبنوك قادرة على تلبية الطلب على العملة الأمريكية، رغم التراجع النسبى لمواردها من السياحة والاستثمار، ولكن الحصول على سعر متوازن للجنيه هدف للبنك المركزى على مر السنوات الماضية، ومستقبل العملة المحلية مرهون بالاستقرار السياسى وعودة تلك القطاعات المدرة للعملة الأجنبية إلى التدفق مرة أخرى بمعدلات عالية.
يسأل الرئيس عن إمكانية طباعة العملة وأوراق التضخم، ورئيس الوزراء يؤمن على السؤال، يجيب «العقدة» بلغة حاسمة متزنة مستحضرا خبرته الاقتصادية والمصرفية: «سيادة الرئيس نحن نراعى حسابات التضخم وارتفاعات الأسعار عند الطباعة، وذلك مراعاة للظروف المعيشية للمواطن المصرى، وقمنا بطباعة نحو 20 مليار جنيه بعد الثورة مباشرة لتعزيز السيولة فى القطاع المصرفى، والطباعة الجديدة للعملة تحدث فقط حاليًا لإحلال وتجديد التالف من فئات النقد المصرية المتداولة فى الأسواق المحلية».

الأسئلة مازالت متدفقة فى اتجاه واحد من الرئيس إلى المحافظ. يسأل الرئيس مرسى: ماذا عن مستويات الدين الداخلى والديون الخارجية المستحقة على مصر.. وهل مازلنا قادرين على السداد؟

«العقدة» يرد دون تردد فقد عزم أمره قبل اللقاء أن يصارح من يجلس فى القصر بالحقيقة المرة: «مستويات الدين الداخلى تجاوزت التريليون جنيه نتيجة الاستدانة الداخلية من البنوك لسد العجز فى الموازنة العامة للدولة، والذى من المتوقع أن يصل إلى 170 مليار جنيه.. أما الديون الخارجية، وحتى الآن فهى فى مستوى مقبول وتصل إلى نحو 34 مليار دولار، ولم نتخلف يومًا عن سداد أقساط الديون الخارجية، رغم الأحداث العنيفة التى مرت بها مصر بعد ثورة يناير، وتراجع الموارد الدولارية من قطاعات تأثرت سلبًا بالأحداث مثل السياحة والاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتسدد مصر خلال الأسبوع الأول من يناير القادم نحو 700 مليون دولار من ديونها المستحقة لدول نادى باريس، وكان التزامًا على البنك المركزى أن يلبى تخارجات الأجانب من الاستثمار فى مصر وتوفير العملة الأجنبية، وهو ما مثل ضغطًا هائلًا على الاحتياطى الأجنبى، وتراجعه من 36 مليار دولار لـ15 مليار دولار».

ويفكر قليلا محافظ البنك المركزى، وينظر إلى رئيس الدولة ورئيس وزرائه، ويكمل حديثه: «كل شهر يتم توفير نحو 600 مليون دولار لاستيراد السلع الغذائية والبترول من الخارج، ونتبع استراتيجية لعدم نزول الاحتياطى عن مستوى 15 مليار دولار، وهو ما يكفى لاستيراد المنتجات الأساسية لـ3 أشهر، وهو مطلب أساسى لصندوق النقد الدولى، وارتفاع تحويلات المصريين العاملين بالخارج، وإيرادات قناة السويس، ساهم فى الحد من نزيف الاقتصاد خلال الشهور الماضية».

ويسأل الرئيس مرسى «العقدة»: وما وضع البنوك والقطاع المصرفى المصرى حاليًا؟
«العقدة»: «برنامج الإصلاح المصرفى الذى أتمه البنك المركزى خلال السنوات الماضية ساهم فى تقوية الكيانات المكونة لنسيج الجهاز المصرفى، وهو ما ساهم فى عبور البنوك المصرية العديد من الأزمات الاقتصادية الدولية، وأيضا الاضطرابات التى أعقبت ثورة يناير، وتشمل الصورة الحالية للبنوك تكوين قواعد رأسمالية قوية، ونحو تريليون جنيه – 1000 مليار جنيه – من الودائع، وتراجع أرقام الديون المتعثرة من 130 مليار جنيه إلى أقل من 20 مليارًا.. وسيظل القطاع المصرفى فى خدمة تمويل المشروعات القومية والقطاع الخاص للنهوض بمعدل النمو».

ويكمل «العقدة» حديثه: «قوة الكيانات المصرفية المصرية عن طريق الاندماجات والاستحواذات ساهم فى تطلع بعض المؤسسات المصرفية العربية والأجنبية إلى الدخول إلى الأسواق المصرية، ومنها صفقة استحواذ بنك قطر الوطنى على البنك الأهلى سوسيتيه جنرال، والتى أصبحت تسير فى مراحل متقدمة فى الوقت الحالى».

ويظل مشهد التظاهرات والاحتجاجات التى نظمتها القوى السياسية أمام البنك المركزى، والتى أطلق عليها «حصار المركزى»، وذلك بعد قرارات «مرسى» بزيادة الضرائب على نحو 50 سلعة، والذى تراجع عنها «الرئيس» مصدر إزعاج لـ«العقدة»، وسط تكهنات تشير إلى تكرار هذا المشهد مرة أخرى فى ظل موجة غلاء متوقعة بعد الاستفتاء على مشروع الدستور المثير للجدل.. هذا ما دار فى ذهن «العقدة»، بعد انتهاء اللقاء مع رئيس الجمهورية وهو خارج من بوابة قصر الاتحادية ومشهد الحصار والخيام أمام عينيه.

الاجتماع مع محافظ البنك المركزى ورئيس الوزراء كان يبدو فى ظاهره تقليديا فى إطار اعتاده الرئيس محمد مرسى، بعقد لقاء دورى مع القيادات التنفيذية فى القطاعات الاقتصادية والسياسية، منها 3 لقاءات مع الدكتور فاروق العقدة، ثارت تكهنات وقتها بأنه سوف يطلب من الرئيس مرسى الرحيل، عن منصب محافظ البنك المركزى بعد 9 سنوات من المسؤولية، نظرًا للتوقعات التى تشير إلى أن قادم الأيام يحمل الكثير من الاضطرابات السياسية، تزيد المشهد الاقتصادى تعقيدًا، مفضلًا أن يعود إلى بلدته المنصورة، لكن هذه المرة الأخيرة لم تكن تقليدية ولا اعتيادية فالاقتصاد ينزف كثيرا تحت وطأة احتقان الأوضاع السياسية المضطربة، والرجل لا يبغى أن يكون مشاركا فى صمت مريب يقترب من حدود «الجريمة التاريخية» وعليه أن يقول كلمته حتى لو كانت الكلمة الأخيرة وفى حضرة رئيس الجمهورية ورئيس وزرائه وقد قالها.

هذه التفاصيل لم تبح بها أو تعلن عنها رئاسة الجمهورية أو يذيعها الدكتور ياسر على المتحدث الرسمى، ولكن هل هناك غير ذلك من حوار يدور بين رئيس فى مأزق ومحافظ بنك مركزى قائم على خزائن مصر فى ظروف اقتصادية شديدة التعقيد؟

هكذا كان خيالنا فى «اليوم السابع» الذى يتطابق تماما مع واقع ما دار بين الرئيس والمحافظ عن وضع الاقتصاد المصرى، وهل هناك تفاصيل أخرى من الممكن أن يقولها «العقدة» لـ«مرسى» بعد ذلك؟

اللقاء كان يبدو بمثابة الاستثناء الذى أكد حقيقة راسخة فى وجدان العقدة، بأنه لا بديل عن الترجل ويستريح من عناء المنصب بعد أن قال كل الحقيقة للرئيس ووضع بين يديه «جمرة النار» المتقدة ليفكر فى أى قرارات سياسية واقتصادية قد تطفئ اللهب والحريق، وليقرر مصير العقدة نفسه.

فبعد يومين فقط من هذا اللقاء، سافر «العقدة»، لخارج البلاد، وهو ما أثار عدة تكهنات فى أعقاب «لقاء مرسى»، والذى تردد خلاله تقدمه باستقالته من منصبه، لكن مصدر مصرفى رفيع المستوى، بالبنك المركزى المصرى أكد لـ«اليوم السابع»، أنه لا علاقة بين السفر للخارج واللقاء الذى جمعه مع الدكتور محمد مرسى، رئيس الجمهورية، والدكتور هشام قنديل، رئيس مجلس الوزراء، والذى تضمن مناقشة ملفات اقتصادية عدة، مؤكدًا أن سفره للخارج يأتى فى إطار اجتماعات عمل دورية يجريها مع مسؤولين دوليين، ولا ترتبط بتكليفات أو ظلال ألقى بها لقاء «العقدة» مع رئيس الجمهورية، نافيًا أن يكون قد تقدم باستقالته للرئيس.

«العقدة» الذى يلوح بالاستقالة من منصب المحافظ بين الحين والآخر خلال العامين الماضيين، وتتردد أنباء عن رفضه لعدة مناصب وزارية وحكومية رفيعة المستوى، يظل حافظ أسرار وتفاصيل الاقتصاد المصرى خلال العقد الماضى، وأحد أهم «العملات الاقتصادية» التى راهن عليها 3 حكام فى 3 عصور مختلفة مرت على مصر خلال السنوات العشر الماضية.

يبقى المصدر الرئيسى لفخر الدكتور فاروق العقدة، واعتزازه بنفسه، هو قدرته على التعايش مع كل العصور.. فقد حمل مسؤولية «خزانة مصر» خلال عصر الرئيس السابق حسنى مبارك، وكون خلالها احتياطيا من النقد الأجنبى بلغ 36 مليار دولار، وقاد برنامجًا للإصلاح المصرفى ساهم فى تجاوز مصر أزمات اقتصادية عنيفة.. ثم كان عصر المجلس العسكرى، واستطاع أن يكون مصدر ثقة للمشير محمد حسين طنطاوى، وجدد له «المشير» لفترة ولاية ثالثة مدتها 4 سنوات، ليكون أطول محافظى البنك المركزى المصرى عمرًا فى المنصب.. وجاء «عصر الإخوان» وصعود تيار الإسلام السياسى إلى سدة الحكم، فأصر الرئيس محمد مرسى على استمراره فى منصب محافظ البنك المركزى المصرى، وسط أنباء عن إتمامه فترته القانونية والتى تنتهى فى نوفمبر 2015.