إبراهيم عبد المجيد

المكان الوحيد للعملات الزائفة

الإثنين، 08 أغسطس 2011 03:29 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
منذ عشرين سنة، وربما أكثر، اشتريت من معرض الكتاب عدة كتب، كان من بينها عدد من الروايات لكتَّاب من أمريكا اللاتينية. ذات ليلة مددت يدى إلى رواية لا أذكر عنوانها الآن. ولا أذكر اسم كاتبها. بل حدث ذلك النسيان ربما فى اليوم التالى لقراءتى لها. والحقيقة أيضًا أننى لم أقرأ منها إلا صفحات قليلة، ثم تركتها من يدى وبقيت صامتًا طول الليل، حتى نمت مع الفجر. لا أذكر أيضًا فى أى رف وضعتها فى المكتبة. كان يمكن لى أن أعرف لو أردت وقتها. لكنى لم أشأ. كانت الصفحات القليلة التى قرأتها كافية لأن تدخلنى فى صمت كبير. كانت الصفحات تحكى عن الناس الذين يصعدون درج قصر حاكم المدينة كل يوم فيمرون على قطعة من النقود المعدنية سقطت من قبل من الحاكم على الدرج، فلم يشأ أن يحملها. ولا يفكر أحد فى التقاطها من مكانها. ظلت قطعة النقود على الدرج سنوات طويلة، وكل من مرّ بها لا يحملها حين يعرف أنها تخص الحاكم. وهكذا مرّت السنون والقطعة المعدنية يتوالى عليها الشتاء والصيف، وتبلى وتتغير معالمها، ولا أحد يحملها، أو يستطيع أن يفعل ذلك. إلى هنا وتركت الرواية من يدى. أصابتنى بالرعب. إلى هذا الحد بلغ الخوف من الحاكم. فكرت فى أحوالنا فى مصر، وأحوالنا فى العالم العربى. وأحسست بأن الكاتب يعبر عن قمع الشعوب أعظم تعبير. لم أعد فى حاجة لأعرف بقية الرواية. اقتنعت أن ما سيأتى لن يفوق ما قرأت فى تصوير الرعب، واختفت الرواية بين كتبى ونسيتها، ونسيت اسم كاتبها، ولم أعد أتذكر إلا هذا التصوير العظيم للرعب.

تذكرت الرواية كثيرًا أيام ثورة 25 يناير. وتذكرت أن الرعب لا يمكن أن يكون قدرًا. يطول أو يقصر لكن لابد أن ينتهى. وتذكرتها يوم الأربعاء الماضى وأنا أرى الرئيس المخلوع فى القفص ممددًا على السرير، وحوله عصابته الكبرى. صحيح لم يقنعنى بأنه مريض. صحيح بدا لى غير مهتم بما يحدث كما لم يهتم أبدًا بالشعب، ولا كان يضع له أى اعتبار. صحيح أن ولداه كانا يقفان متحفزين كأنهما يريان الشعب المصرى أمامهما. صحيح أن وزير داخليته كانت تطل من عينيه نظرة ذئب ينتظر الفرصة للانقضاض على الفريسة. صحيح أن بقية الضباط المتهمين كانوا مثل وزيرهم ومثل ولدى المخلوع فى غاية الصحة والرشاقة، مما يجعلنا نفكر فى نوع السجن الذى يقضون فيه أيامهم. صحيح أن قرار الاتهام ينقصه الكثير مما نعرفه عن أموال جمدت فى أوروبا تصل إلى المليار ولم يأت سؤال عن مصدرها. وهى بالتأكيد ليست كل الأموال. وعن تجارة جمال مبارك مبكرًا فى ديون مصر، وعن شركاته فى الخارج، واقتصر الأمر على خمس أو أربع فلل أخذوها من حسين سالم إلى جانب القضية الكبرى طبعًا وهى قتل المتظاهرين. صحيح أن بعض ضباط الشرطة كانوا يعاملون المتهمين كأنهم فى السلطة، وبعض ضباط الجيش أيضًا للأسف. صحيح أن المحامين الكبار احتشدوا من أجلهم ليكونوا فى مواجهة الشعب كله، لكن فى النهاية المشهد كله يطلعنا على عملات قديمة كانت تخص الحاكم الديكتاتور، وظل الشعب سنين يدور حولها يائسًا، حتى انتفض وهو يرى هذه العملات، التى لا تحس أبدًا، تقاوم الشتاء والصيف، وتقف أمام عينيه كل يوم فى تحد. لقد انقض الشعب على هذه العملات وأخذها من مكانها الذى بدا سنين وكأن الله خصها به، ولا حيلة لأحد لأن ينتزعها منه. انقض الشعب وأمسك بها بيديه وتأكد له أنها عملات من ورق، وزائفة، ما أسهل تمزيقها. أما الذين لا يزالون يعجبون بها، أو يدافعون عنها أملاً فى الفوز بكنوزها الأخرى الخفية، فحين يتم التخلص من هذه العملات لن يرحم التاريخ كل من يبكى عليها، وكل من يدافع عنها، وهى فى الأساس مزيفة. وإذا كانت قد تأخر إلقاؤها خارج التاريخ فلا يعنى هذا أنها ستبقى طويلاً، فالذين انقضوا عليها مازالوا قادرين على دفع الثمن.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 3

عدد الردود 0

بواسطة:

على كمالو

ادفع بالقريحة

عدد الردود 0

بواسطة:

على

مثقف السلطة

عدد الردود 0

بواسطة:

وهدان سعد

صدقت...

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة