د. محمد على يوسف

حين تراق دماء وتغيب دماء

الأربعاء، 21 نوفمبر 2012 07:13 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
المحل الطبيعى للدماء هو الأوردة والشرايين التى تتغلغل فى جسد الإنسان، فتغذيه بالحياة، وتنبض مع دقات قلبه، لتسرى فى عروقه بالحرارة والحيوية. وحينما يموت المرء يتعطل ذلك الجريان، وتتجمد فى العروق تلك الدماء، فتغيب الحيوية والحرارة عن الجسد، ويتحول إلى جثة يابسة متصلبة الأطراف، باردة الثنايا، فاقدة المشاعر والأحاسيس. البعض للأسف يتحول إلى حالة مشابهة، بينما لا تزال الدماء تنبض فى عروقه «شكليا فقط»، حالة مشابهة من البرود والجمود القاسى، وكأن قلب صاحبها قلب ميت، لا تسرى فيه حرارة الدماء أوحيويتها.

وكلما أُريقت دماء يتكشف هؤلاء، وتتكشف غلظتهم، وتتبدى قسوة قلوبهم، ويظهر تبلد مشاعرهم، ويتعرى موات إحساسهم. يتكشفون كلما اختزلوا أزمة تمر بالأمة، أو كارثة تلم بها، إلى مجرد تعليق قمىء، لا يعنى إلا بتحقيق مصلحة سياسية، أو بإثبات وجهة نظر، أو بتسجيل موقف. تتكشف أخلاق بعضهم حينما تتحول صرخات الأبرياء إلى مجرد مزايدات، وتنقلب مهابة الموت إلى فرصة سانحة للنيل من خصم أومنافس. بينما تتكشف بلادة آخرين، وتظهر غلظة مشاعرهم حينما ينتهزون الفرصة لبعث مصالحهم من رقادها، والدعوة الفجة لتحقيق مكاسب حزبية، دون مراعاة لأحزان أو مشاعر.

الحقيقة أن هذا الأسبوع كان نموذجًا فريدًا على هذه المهزلة الأخلاقية، فعلى الرغم من أن الدماء التى تُسفك من أعضاء جسد الأمة، لا تتوقف منذ شهور - بل فى الحقيقة منذ أعوام - فإن هذا الأسبوع شهد جراحات جديدة وقريبة. لقد عاينّا جميعًا ما فعلته يد المحتل بإخواننا فى غزة، وبعدها بساعات ما فعلته يد الإهمال والتقصير، وتوسيد الأمر لغير أهله بأطفالنا فى أسيوط. عاينّا أوجاعًا كنا نراها فى الصور القادمة من سوريا، أو نقرأ عنها فيما يروى عن أحوال المستضعفين فى بورما، لكنها هذا الأسبوع اقتربت أكثر، ونزفت فى العمق، وبدلاً من أن نكون على قدر الأحداث، إذا بالبعض وبقسوة منقطعة النظير يحولها كالعادة إلى معارك سياسية جديدة. فما بين طائفة تسارع بإلقاء اللوم على الضحية، بفكر شبيه بمنطق «إيه اللى وداها هناك»، الذى قيل عن الفتاة التى سُحلت العام الماضى بأحداث مجلس الوزراء، ذلك المنطق الذى يعتبر مقاومة المحتل إرهابًا، ويرى الصواريخ التى لا يملك أصحابها غيرها تهورا ورعونة، وكأن المطلوب من أهل غزة أن ينكسوا رؤوسهم، ويلعقوا جراحهم، ويحتفظوا بصواريخهم، ويقبعوا فى بيوتهم، ويوقفوا جهادهم، ويقبلوا ظلمهم، ويتكيفوا مع محتلهم، ويتناسوا قضيتهم، ويتغافلوا عن أسراهم، ويغضوا الطرف عن لاجئيهم، وينسوا أقصانا وأقصاهم. مطلوب منهم أن يعيشوا فئرانا ذليلة كى لا ينزعج جيرانهم -الذين هم من المفترض إخوانهم - بشائعات توطينهم فى سيناء أو احتلالها كما تلفظ البعض، فى إهانة موجعة لمبتلًى جريح يظن به إخوانه أنه يفتعل جراحه وأشلاء أطفاله فقط ليستولى على أرضهم وديارهم!

وبين طائفة أخرى، تعتقد دوما أنه ليس فى الإمكان أحسن مما كان، وترفض مجرد تحميل المسؤولية لمن قَبِل أن يكون راعيا، وكل راع مسؤول عن رعيته. طائفة تتغافل معنى كلمة «مسؤول»، وتنشط فقط للتبرير، دون أن تدرك أن المسؤولية من المساءلة، وأنها تختلف عن التخطئة المطلقة، فهى فى الأصل إحساس ينبنى عليه عمل، ومؤداه أن هناك من يتحمل على عاتقه عبء التغيير والإصلاح، ويستعد لأن يحاسب على ذلك ويُسأل فى الدنيا قبل الآخرة. لكن للأسف حتى مجرد هذا الإحساس يرفضه البعض، ويصرون على رفعه عن متبوعيهم رغم أن من هو خير منا ومنهم ومن متبوعيهم لم يرفع هذا الإحساس عن نفسه أو يرفعه أحد عنه فى شأن دابة تعثر فى العراق فقال كلمته الخالدة: «لو عثرت بغلة فى العراق لسألنى الله عنها لِمَ لمْ تُمهد لها الطريق يا عمر» وصدق من قال: الإحساس نعمة!

أما أشد شىء على النفس، فهم أولئك الذين يستغلون مثل تلك الأحداث للتذكير بمطالبهم الحزبية، ومصالحهم الأيديولوجية، من منطلق «كوهين ينعى ولده ويصلح ساعات». هؤلاء حقا هم أكثر من تكشف الدماء المراقة عن خلو عروقهم من مثلها. المصيبة الأكبر من إراقة الدماء فى رأيى، أن تهون تلك الدماء لهذه الدرجة، وأن تتحول إلى مجرد بضاعة رخيصة تنتظر من يتربح عليها، حينئذ تنتحر المبادئ، وتنزوى القيم، وتتوارى عقلية الحل ولا يبقى إلا صوت واحد، هو صوت المصلحة.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة