د. محمد على يوسف

ميتة برجر

الأربعاء، 24 أبريل 2013 05:32 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تخيل لو أتى على الناس زمان اضطروا فيه لأكل الميتة!
لعلك سترد قائلا: عادى وماذا فى هذا؟! لقد أباح ربنا هذا الأمر فى الاضطرار، وأنا سأقول: صدقت، ليس لدى مشكلة فى ذلك ما دامت الضرورة مقدرة بقدرها ومنضبطة بضوابطها، المشكلة التى لدىَّ فيمن يأكلها وينسى أنها ميتة أو يُغفل فى خطابه بيان أن ما يفعله استثناء وليس أصلا، أو أن يخرج من يُنَظِّر لأهمية وفوائد أكل الميتة ويروج للناس فكرة أن أكلها أمر عادى وطبيعى، أسمعك تقول: وما له؟! إذا كنا كلنا عارفين إنها ميتة، وأن هذا خطاب استثنائى لكى تسير الأمور فماذا فى هذا؟ وهذا قد يكون صحيحا بالنسبة لك ولى وبالنسبة لزيد وعبيد الذين يعرفون الآن أنها ميتة، لكن حدثنى عمن سيأتى بعدنا.. حدثنى عن ولدى وولدك وابنتى وحفيدتك.. حدثنى عن الميتة حين توضع بعد فترة ومع مرور الوقت بين قطعتين من الخبز المنتفش المغطى بطبقة من السمسم وبينهما «الكاتشب» والمستردة والخس والمقبلات.. حدثنى حين تباع الميتة «سبايسى» و«أوريجينال» بعد عمر طويل من تمييع وتعميم خطاب الاستثناء والمبالغة فى التبرير وعدم تسمية الأشياء بأسمائها حدثنى عن «الميتة برجر»!!

و«الميتة برجر» ليست فكرة خيالية أو بعيدة عن الواقع الإنسانى، بل هى فى الحقيقة عادة بشرية حين يتحول إلى الشىء إلى أصل تصعب الحيدة عنه، ويتعود المرء على الخلل ويستمرئ غير العادة حتى تصير عادة طبيعية ليس فيها شىء وتلك مشكلة تعميم خطاب الاستثناء وعدم بيان كونه استثناءً حيث تذوب الفوارق وتضيع الثوابت وتطمس المفاهيم ويصير الحرام حلالا والحلال حراما، وكم من أمور كانت مستغربة فى أولها مستهجنة فى بدايتها ثم تحولت مع الوقت وقلة النكير إلى أمور عادية، يقول أنس بن مالك رضى الله عنه: إنكم لتعملون أعمالا هى أدق فى أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله من الموبقات».

تخيل!

لم تمر أعوام بعد وفاة النبى ورغم ذلك استهان الناس بأمور كانوا يعتبرونها من الخطورة بمكان فى العهد الأول ولنا فى القصة التى أوردها البخارى عن ابن عباس عبرة وعظة حين تحدث عن حقيقة «ودّ» و«سواع» و«يغوث» و«يعوق» و«نسرا» - تلك الأصنام التى كان يعبدها قوم نوح - فأخبر أن هذه الأسماء كانت لرجال صالحين عابدين لله ولما ماتوا اقترح البعض أن يتخذوا على أماكن عبادتهم أنصابا تذكرهم بصلاحهم وعبادتهم فيعبدوا الله مثلهم فلما تعاقبت الأجيال ونسخ العلم ونسى الناس أصل تلك الأنصاب وعبدوها، وهذا نموذج واضح لخطورة ضياع المفاهيم والثوابت ومثال لتحول شىء ربما جاز فى أصله أو صاحبته النية الطيبة فى بدايته إلى مآل مختلف وخطير فى النهاية.

اليوم يزعم البعض أن من اعترض على خلل شرعى أو انتقد انتهاكا لحرمة من حرمات الله فإنه بذلك متعجل سطحى لا يفقه معنى التدرج ولا يعرف حكمة المرحلية ولا يمتلك فضيلة الصبر والحلم، ولا أراهم قد أصابوا فى رأيهم هذا، ذلك لأن بيان الحق الذى يدين به المرء والمفاصلة بين الصواب والخطأ حفظا للمفاهيم ورعاية لثوابت الدين لا علاقة له بتدرج أو مرحلية فى التنفيذ إنما له علاقة بإبراء الذمة والصدع بما يعرفه المرء من شرع ودين، وهذه ثوابت فى أصلها لا تتبدل ولا تتغير ولابد للناس أن يعرفوها وتتشربها قلوبهم، قد يأكل الإنسان الميتة يوما ما مضطرا لكنه أبدا لا يقول لمن بيَّن للخلق أنها فى الأصل محرمة لا تفعل، فأنت بذلك تشغب على مرحليتنا وتثقل علينا ولا تفهم معنى الاضطرار، ولو أن من وقفوا على ثغر البيان أجابوا مثل تلك الدعوات لما عُرف معروف ولا أنكر منكر ولا ظهر حق أو أبطل باطل، ولأتت أجيال تقول حين تُذَكَّر بالحق: «ما سمعنا بهذا فى آبائنا الأولين»، ولصارت الميتة يوما ما حلالا وربما مستحبة ولربما وجدنا هذا الاسم الخيالى يتحول لحقيقة واقعة فتصير «الميتة برجر» شيئا ملموسا وجذابا وحينئذ «ابقى قابلنى» لو استطعت أن تقنع أحدا أنها ميتة أو أنها حرام، لذا فينبغى على أصحاب خطاب الاستثناء والمترخصين ألا ينسوا أبدا أن ما يفعلونه هو فى النهاية أمر طارئ، وأن الأصل أن تسمى الأشياء بأسمائها فيظل الخمر خمرا وليس مشروبا روحيا، ويظل الربا ربا وليس مصاريف إدارية وليتوقفوا عن النكير على من يبين هذا للناس لعل الميتة تظل للنهاية ميتة ولا تتحول يوما إلى «ميتة برجر».








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة