د. محمد على يوسف

ثقافة النيش والمحشى

الخميس، 15 يناير 2015 11:12 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
- هتشتروا نيش فى سفرة جهازك إن شاء الله؟
هكذا سألت صديقى المقبل على الزواج
- طبعًا هنشترى نيش.. الحمد لله الخير كتير وربنا فارجها من وسع
- ما شاء الله ربنا يزيد ويبارك بس سؤال آخر يا صديقى

هتشتروه ليه؟ صمت صديقى طويلاً وبدأ يفكر فى عمق ثم مط شفتيه بلا مبالاة وتبسم قائلاً: عادى يا عم هنشترى نيش زى ما الناس كلها بتشترى نيش، هذه ببساطة هى حقيقة كثير مما نفعله

كثر الكلام والمزاح مؤخرًا حول ظاهرة النيش التقليدية وظننت أن صديقى وغيره سيتأثرون بتلك السخريات المنتشرة حول هذا الموضوع ومدلولاته لكن يبدو أن الأمر أقوى مما كنت أتصور

إنها سلطة الثقافة الغالبة، ثقافة اللى زى الناس ما يتعبش، تلك النمطية الخانقة التى تفرض على الناس أن يسيروا جميعًا وفق نفس الكتالوج والنيش هو ببساطة نموذج مثالى لهذه النمطية والكتالوج الذى يحكم حياتنا. قطعة من الأثاث لابد أن تكون ذات واجهة شفافة لتظهر ما وراءها من الأطباق الصينى الفاخرة وأطقم الشاى والكئوس اللامعة والفضيات الثمينة، لا.. ليست المهمة تخزينية بحتة فهناك قطعة أخرى من السفرة غالبًا ما تقوم بهذا الدور على أكمل وجه وهناك قطعًا مثيلة فى المطبخ، بالإضافة إلى حقيقة علمية أخرى وهى أن أغلب ما فى النيش لا يستخدم مطلقًا وأحيانًا يتزوج العروسان وتمر بهما الشهور والأعوام وينجبان ثم يشيخان ويموتان دون أن يفتح النيش العظيم إلا لتلميع وتنظيف الأشياء الأسطورية القابعة فى صمت خلف زجاجه العتيد، ويا ويل الابن أو الحفيد الذى سيجرؤ يومًا ويقترب من سور النيش العظيم ليطالع تلك المنطقة المحرمة حينئذ ستلتهمه النظرات الحارقة ويسمره فى مكانه صياح الأم أو الجدة فقد تجرأ على قدس الأقداس وسر الأسرار المنزلية وكل ذلك لماذا؟ إنه الكتالوج ومنطق: زى ما الكتاب بيقول، الكتالوج الذى نقدسه فى حياتنا ويدفعنا دفعا لجل تصرفاتنا، الكتالوج الذى يفرض على شابين يبدآن حياتهما سويًا أن يتكلفا ويتحملا كل تلك الضغوط المجتمعية التى لا يعتبر النيش أقساها وربما لا يقارن بباقى العادات التى يمليها كتالوج الزواج العتيق وقائمة متطلباته الأسطورية، نفس الكتالوج الذى يجعل المرأة المسكينة (تمقق) عينيها بالساعات (للف) المحشى بأنواعه المختلفة ولماذا؟! ما الهدف من هذا التعذيب وتضييع الأوقات؟! وهل وضع المكونات الخاصة بالمحشى على هيئة طبقات مثلا لن يوفى بالغرض ولن يؤدى إلى نفس الطعم أو على الأقل إلى طعم قريب منه؟! أم أنها النمطية مرة أخرى والتقليد العقيم لسلطة لواقع المحيط؟ سلطة الواقع الذى يملى على المرأة المسكينة أن تكون ماهرة بالمحشى، قس على ذلك كل كتالوجات حياتنا.. كتالوجات الطالب المسكين الذى لابد أن يتم حشو مخه منذ نعومة أظفاره بكم هائل من المعلومات التى لن يفيده أغلبها كما يتم حشو حقيبته بأثقال من الكتب والكراسات ينبغى أن تقصم ظهره الصغير، ومثلها كتالوجات التنسيق واختيار الكلية التى يفرضها مجموعة وليست ميوله ومهاراته ومواهبه، ومثلها كتالوجات الشهادات والمؤهلات التى عليه أن يبحث عنها على قدم وساق لا لشىء غالبا إلا لأن هذا هو ما يمليه الكتالوج رغم أنه يعلم حقيقة كون جل تلك الشهادات والمؤهلات لا يُعترف بها فى أى دولة متقدمة سيفاجأ إذا فكر أن يذهب إليها يومًا أن عليه إلقاء كل ما تلك المؤهلات العتيدة عرض الحائط والبدء من جديد، لكنه مع ذلك سيسير على القضبان وفق توجيهات كتالوج التعليم العتيد وسائر كتالوجات العادات البالية والتقاليد العجيبة التى نقوم بها دون تفكير أو تساؤل عن حقيقة تلك الأشياء وضرورتها ولزوم السير على خطواتها المرسومة بعناية، كتالوجات ضيقت علينا حياتنا وصعبت عيشنا وأملت علينا تصرفاتنا وتسلطت على واقعنا وفرضت نفسها على حركاتنا وسكناتنا بسلطة تلك الثقافة الغالبة، ثقافة النيش والمحشى.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة