بيرم التونسى.. «غلبت أقطع تذاكر وشبعت يا رب غربة»

الجمعة، 09 يناير 2015 01:58 م
بيرم التونسى.. «غلبت أقطع تذاكر وشبعت يا رب غربة» بيرم التونسى
كتب - حازم حسين

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
- حمل بيرم لواء العامة والعامية وشكّل مصدر خوف كبيراً للقصر وأمير الشعراء

عينان كفوّهتى مدفعين- يخترقان بقعتين بيضاوين- على جدار حجرى، أحسن البنّاء هندسة أحجاره ورصّها، وأعمل النحّات إزميله بمهارة ودربة فى بروزاته وتيجان أعمدته، فكأن تمثالاً من الجرانيت الصلد العتيق، وكأن قبتين سماويتين من زبد الموج، وبؤبؤين من حلكة الليل، ومقلتين فارهتين- فى مجملهما- من غبش الفجر، وترقرق الحليب على كفّى فلاحة سمراء.

كالمنابع والمنابت والانطلاقات الأولى، سخّر الله ناسًا يهطل منهم الجمال والإبداع، وتبزغ من طينتهم الورود والأعواد العطرة الميّاسة، على غير مثال ولا سابق إحاطة للعين بهم، أو التماع لهم على زجاجها الشفاف الشوّاف، ليسوا كآحاد الناس، ولا على قالب السبك المعتمد من لدن صائغ النفوس والأرواح فى إنتاج العامة والعاديين، ومَن جاءوا ليمضوا دون مَضَاء، ولا إمضاء، صاغهم بروح وريحان يشبهان المجموع ويغايرانه فى الآن عينِه، وبغُدوٍّ ورواح مخاتلين لا يكشفان مكنون الأصداف لمختلسى الشواطئ ومسترقى الصيد، فكأنك فى معيّة صعلوك من ماء ملكىّ، أو تسمع لنبىّ فى ثوب بغىّ، أو تطبع أطراف أناملك على منجم طازج من عجينة البشر ومخبوز الحكمة، وفيوض العطاءات النورانية العليّة، هو تنافر الآلاف فى الزلال والسائغ، وائتلاف الأضداد فى الحوشىّ والآسن، وعنوان الإطلاق العريض الذى لا يحتويه من النسبيين إلا من كان انفتاح قوس روحه أعمّ وأحدّ وأكثر انفراجًا من قوسى عينيه، أو من كان محمود السريرة، وطيب السيرة والمسيرة، ومجمعًا لثقافات وحضارات وجينات شتّى، أو يمكنك اختصار الأمر فى أن يكون محمود محمد مصطفى بيرم التونسى.

كمواسم الفاكهة والحصاد، للأرحام أيضًا مواسمها، قد يمتد أوان البشارة والإزهار شهورًا وقرونًا، لكن تظل للقيمة منطقها وللوفرة اعتباطيّتها، وبينما توزَّعَ ماء آدم على صنوف وبطون، يدفن آخرها أوّلَهَا، شرد صنف من طابور الموتى والأحياء، ووقف صلبًا وشاخصًا للطقوس والطقوسيين، يشهد على الدافن والدفين، ويُعبّئ صوامع الآدميين بميراثهم وموروثهم الحقيقيين، وكى يكتمل عقد الشهود وجهد الحصّادين اختارت الأرحام أن تجدول عطاياها وترتّب مواعيدها، فصاغت مواسم يبزغ ويثمر ويطيب فيها البشر للأكل والآكلين، ووفق هذه المواسم ازدانت غصون الإسكندرية الآبقة المنفلتة من عقال اليابسة، والعفية قبالة عنفوان البحر، بتفاحتين لا سَمِىّ لهما ولا شهىّ دونهما: بيرم التونسى وسيد درويش.

كما يليق بنقاط الدائرة ومصابيح المركز، وافق موسم الآدميين موسم الجغرافيا، فتفتحت نوّارة الرحم مع نوّار الربيع، تفتّحًا عقد ناصيتى الجسر بين هامة التونسى، وهالة الأنوار والألوان، ملتحقًا بعبور ربيعى لفنان الشعب سيد درويش الذى سبقه بعام وستة أيام - 17 مارس 1892 لدرويش و23 مارس 1893 لبيرم - لتتكفل المواسم والأيام والإسكندرية بتأليف الدراويش فى حضرتهم وحضرتها المقدستين، واستقطاب الأقطاب لطريقتهم وطريقتها الصافيتين الصافنتين، وهى المرحلة التى أكملت فراغات الروحين، وسدّت ثغرات العقلين، وأنتجت مشروعين مائزين فى الكتابة والموسيقى، قادا فيما بعد قارب الموسيقى المصرية والتجديد والابتكار فى مفردات وموضوعات الغناء لأكثر من نصف القرن.

نحت القدر لفارسه الحنّان هيئة تملأ العين، وتُرجح كفة الآدميين على ميزان الدنيا، وتُفسّر بتناقضها- مع اللمسة الربانية الرومانسية لعجينة الروح- لغز ائتلاف البأس والهمس فى ضفيرة واحدة، فكأن سيفًا من ريحان أو وردة من فولاذ، وكأن الهمّ همس، والهمسَ زمجرة وهزيم.

اتّصل بيرم بروح المصريين لا لغتهم فقط، فكان عمًا للعامة، ورسولًا للعامية، وقف على يسار الحكم واللغة والثقافة الرسميتين، فعارض القصر، وهجا الملك فؤاد، وصنع من العامية عقود لؤلؤ ناوشت عيون الفصحاء والمتفاصحين، لهذا نفاه النظام، واتخذه العاميون إمامًا وأبًا، وأعلن أمير الشعراء خشيته منه، وظل المصرى روحًا ورائحة، وغدوًا ورواحًا- والتونسى اسمًا وجذرًا بعيد الغور- يثير غبار الخير والقيم الأبيض أينما حلّ، لذا اقتنص منه المنفى عشرين عامًا، واقتنص منه المسرح والغناء والسينما والزجل والمقامات والكتابة الصحفية مئات الأعمال اللامعة والمهمة، واقتنص هو من الوعى والذاكرة وأرواح الناس اخضرارًا دائمًا، وإيناعًا لا انطفاء له، واستدارة واكتمالاً استثنائيين، وإن أتتهما المواسم وأنضجتهما بميقات كالفاكهة، فقد غادرا عادية المواقيت والقِطاف، إلى أزلية لا تليق إلا بمن ظل قابضًا على روحه كطود فى لجّة البحر، حتى وهو يشكو: «غلبت أقطع تذاكر وشبعت يا رب غربة».








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة