إيهاب يونس يعيش.. تسقط محاكم التفتيش حينما كانت مصر قوية قاد الأزهريون حركة التجديد الموسيقى.. وكان طبيعيا أن يطلق على الموسيقيين لقب «شيخ» حتى لو لم يكونوا رجال دين

السبت، 30 سبتمبر 2017 12:18 م
إيهاب يونس يعيش.. تسقط محاكم التفتيش حينما كانت مصر قوية قاد الأزهريون حركة التجديد الموسيقى.. وكان طبيعيا أن يطلق على الموسيقيين لقب «شيخ» حتى لو لم يكونوا رجال دين الشيخ إيهاب يونس متجليا فى برنامج ست الحسن
كتب وائل السمرى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

- الأوقاف تحقق معه لغنائه أغنية أم كلثوم فإن سألوك: لماذا تغنى فرد عليهم: لأنى أغنى

 

- أم كلثوم التى تضايق الشيوخ من غنائه لأغنيتها خدمت الإسلام أكثر بألف مرة من أكبر شيخ من الذين حاكموا يونس

 
لم يسب أحدا ولم يقتل أحدا ولم يتجرأ على أحد، ولم يكن إرهابيا ولا مجرما، بل كادت روحه أن تضىء وهو يقول: «يا خالقى حبى لذاتك ليس يعلمه سواك»، لكنه كان على موعد مع من يفتش فى نواياه ويحاكمه، متهما إياه بازدراء «الزى الأزهرى»، وهى تهمة جديدة جديدة، تهمة تضاف إلى قاموس اتهاماتنا العبثية، تهمة أسخف من جميع التهم، تهمة لا يعرف أحد تاريخا لها أو سندا، تهمة لا تدل على فوضى إلقاء الاتهامات كما تدل على ضعف صاحب الاتهام ومروجه، تهمة كوميدية تخبرك بكامل تفاصيل حالتنا العبثية.
 
كان الشيخ إيهاب يونس متجليا فى برنامج ست الحسن، الذى تقدمه الإعلامية المتميزة «شريهان أبوالحسن»، بعفوية طلبت منه أن يغنى لسيدة الغناء العربى أم كلثوم، وبعفوية أجاب طلبها وغنى «لسه فاكر»، سرعان ما انتفض الأزهر الشريف، وانتفضت وزارة الأوقاف العفيفة، صعدت الدماء فى أوردة شيوخ الأزهر وقيادات الوزارة، صاح صائح بداخلهم، إنه يزدرى دينا ويدنسه بكلمات سيدة الغناء العربى، ولأن فقر الوعى لا ينسحب على مستوى الفعل فحسب، وإنما ينسحب أيضا على رد الفعل، قررت وزارة الأوقاف إيقاف المبتهل الشيخ «إيهاب يونس» عن إمامة الناس فى الصلاة والعمل بالمساجد، وحولته إلى باحث فى إحدى الإدارات المكتبية، لماذا؟ لأنه تغنى بكلمات عبدالفتاح مصطفى، وترنم بألحان رياض السنباطى، واقترب من دوحة «الست» فى أغنية رقيقة راقية!
 
هكذا يعبث شيوخ المشيخة والوزارة بصورة مصر الحضارية الراقية التى جسدها إيهاب يونس، هكذا يتبرأون من الجمال والرقة والتسامح والخشوع والزهد، الذى جسدته الحالة الفنية الراقية التى قدمها إيهاب يونس، هكذا يحتفظ هؤلاء بجميع تفاصيل الصورة القاتمة التى تكونت لدى غالبية الناس عن رجل الدين المنغلق، ولا أدرى كيف تكون ردة فعلهم هكذا، فى حين أن غالبية شيوخ الأزهر كانوا يؤكدون على أنهم يستمعون إلى أم كلثوم، وأتذكر أن الشيخ محمد سيد طنطاوى كان يصرح فى أكثر من مناسبة بأنه لا يجد غضاضة فى الاستمتاع بصوت «الست» حتى أعتى عتاة التطرف كانوا يستمعون إلى صوتها المعجزة، ويترنمون بكلماتها البليغة حتى وإن ظهر أحدهم وهاجم أغنياتها كما كان يفعل الشيخ كشك، فهذا دليل دامغ على استمتاعه إليها، والسمع أول طريق الغناء، السمع أول طريق الدعاء، السمع أول العلم، أول طريق المعرفة، أول طريق الحب، أول طريق المعرفة، أول طريق المنطق وأول طريق الفلسفة.
 
 
نحن ننحدر، نعم ننحدر، ومن لا يصدق، عليه أن يراجع مواقف الأزهر من الغناء قديما وحديثا، ليتأكد من أننا فى ردة حقيقية، فقد قال شيخ الأزهر «حسن العطار» منذ ما يقرب من قرنين: من لم يتأثر برقيق الأشعار، تتلى بلسان الأوتار، على شطوط الأنهار، فى ظلال الأشجار، فذلك جلف الطبع حمار، ورى عنه الإمام محمود شلتوت: إنه كان عالما بالموسيقى والطرب مفتونا بهما، وبناء على هذا أفتى الشيخ شلتوت بعدم حرمانية الموسيقى والغناء، بل جعله من الأمور المحببة، فكيف الآن نرى من داخل الأزهر أصواتا لا تتعامل مع الموسيقى باعتبارها حراما فحسب، بل يعتبرونها دنسا لا يصح أن يجاور العمة والكاكولا.
 
نعم نحن نعيش فى حالة ردة ثقافية، ردة على ميراث مصر الثقافى الذى احتلت الموسيقى فيه حيزا كبيرا، ولنا هنا أن نتخيل فداحة المشكلة التى نراها الآن، إذا ما قارنا بين ما يحدث الآن وما كان يحدث فى بداية عصر النهضة المصرية إبان حكم أسرة محمد على، حيث كانت مصر بيت الانفتاح العربى، وإليها هاجر المبدعون من كل مكان فى العالم العربى حتى صارت بيتهم وصاروا من أبنائها برغم اختلاف أصولهم، فها هو الرائد المسرحى الكبير «أبوخليل القبانى» يهرب من بطش الشيوخ فى سوريا، ويأتى إلى مصر فينتج فيها ما لم يستطع إنتاجه فى بلده الأم، وهى القصة التى رواها الرائد الموسيقى الكبير «محمد كامل الخلعى» حيث يقول فى ترجمته لأبى خليل القبانى: «إن بعضًا من مشايخ الشام، قدموا تقريرًا إلى دار خلافة الإسلام يقول إن وجود التمثيل فى البلاد السورية مما تعافه النفوس الأبية وتراه على الناس خطبًا جليلاً ورزءًا ثقيلاً، لاستلزامه وجود القيان. ينشدن البديع من الألحان بأصوات توقظ أعين اللذات فى أفئدة من حضر من الفتيان والفتيات، ولهذا حرر الأستاذ «أبو خليل القبانى» خطابًا إلى أحد أعيان الإسكندرية يستشيره فى الشخوص من عدمه، ويخبره بما جرعه به الدهر من كأس غدره وظلمه فاستدعاه مؤكدًا له نيل مناه، فكان الناس ينتظرون وقت وصوله انتظار المحب رجوع رسوله، وقاموا يترقبون تحقيق ذلك الأمل حتى حضر الفاضل الأجل فقوبل من وجهاء القوم على الرحب والسعة والكرامة والدعة، وأخذ اسمه من ذلك الحين ينتشر ويدوى فى كل قطر.
 
هذه هى مصر وهذا ما صنعته وهذا ما كانت عليه، انفتاح وسماحة ومحبة ووعى ورسوخ، فهم عميق للحياة ومكوناتها جعلت شيخ الأزهر يهاجم كل من يزدرى الموسيقى أو الغناء، ليشيع بهذا التوجه المتفتح جوا من التسابق المحمود بين الموسيقيين، من أجل الارتقاء بالروح والبعد عن المفاسد الأخلاقية والإنسانية، ولهذا كان طبيعيا أن نرى الشيوخ وهم يقودون حركة التجديد الموسيقى فى العالم العربى فى القرن التاسع عشر أمثال محمد عبدالرحيم المسلوب، وخليل محرم، ومحمد الشلشلمونى، وعلى القصبجى والد الملحن العظيم محمد القصبجى، ومحمد السنباطى والد الملحن العظيم رياض السنباطى، الذى لحن أغنية «لسه فاكر» ويوسف المنيلاوى، وسلامة حجازى، وعلى محمود، بجوار الأفندية «محمد أفندى عثمان، وكامل أفندى الخلعى، وداوود أفندى حسنى، وغيرهم.
 
 
هنا لا بد أن نقف على دور هؤلاء المشايخ العظماء من أبناء الأزهر الشريف والكُتَّاب، أبناء القرآن والتلاوة والتجويد، أبناء المدح والإنشاد والتواشيح، الذى قادوا حركة التجديد الموسيقى، ومن أهم هؤلاء الشيخ عبدالرحيم المسلوب، الذى يعده الكثير من النقاد أول من ابتكر موسيقى مصرية أصيلة لها طابعها الشرقى والغربى المتأثرة بالبيئة المصرية والمعجونة بالهواء المصرى، فقد ولد هذا الشيخ المبتكر فى مدينة قنا فى صعيد مصر، وحضر إلى القاهرة وتعلم فى الأزهر الشريف، وتخرج فيه وكان أمله أن يأتى بموسيقى مصرية وعربية جديدة ذات لون شرقى ومن بيئتها، وقد تتلمذ على يديه كل من المشايخ محمد الشلشمونى وعبده الحامولى ومحمد عثمان، كما يجدر بنا هنا الوقوف على دور الشيخ خليل محرم، الذى كان من تلاميذ المسلوب أيضا، فقد حفظ القرآن الكريم صغيرا، واهتم بالإنشاد الدينى والابتهالات والتواشيح حتى اشتهر بذلك وشغل وظيفة كبير المقرئين بالقاهرة ومن تلاميذه الشيخ يوسف المنيلاوى، أما الشيخ الشلشمونى فقد كان من أشهر فنانى مدرسة المسلوب الفنية، وهو رائد من رواد فن الموشحات، ويرجع إليه الفضل فى اكتشاف الشيخ سلامة حجازى ويوسف المنيلاوى، ويروى محبو الشيخ ومقتفو آثاره، وأنه كان ذو شهرة داخل مصر، لدرجة أنه فى أخريات حياته اتجه إلى حفل يحييه عبده الحامولى، فانصرف الناس عن الحامولى، وهو ما دفعه إلى التوقف عن الغناء، لكى يسأل عن سبب ذلك، فأجابوه بأن الشيخ الشلشمونى قد حضر الحفل، فترك عبده الحامولى تخته، وقصد الشيخ الشلشمونى وقبل يده اعترافا بفضله ومكانته.
 
 
نحن فى ردة حقيقية والله، فقد كان من الطبيعى فى بداية النهضة الموسيقية أن يلقب الموسيقى بلقب الشيخ، وكان جميع المشتغلين فى الحفل الموسيقى يرتدون العمامة والكاكولا دون أن يجد أحد فى هذا عيبا أو نقيصة، ومن هؤلاء نجد الشيخ سلامة حجازى الذى اكتشف السيد درويش والشيخ سيد درويش الذى اكتشف الروح المصرية الحديثة، والشيخ «محمد القصبجى» الذى كان يلقب بهذا اللقلب، ويرتدى العمة والكاكولا قبل أن يصبح اسمه «الموسيقار محمد القصبجى، والشيخ زكريا أحمد الذى أثرى بفنه الموسيقية الشرقية محافظا على كلاسيكيتها ورونقها ومقاماتها، وعشرات وعشرات غيرهم، لم يمارس أحد عليهم وصاية ولم يهاجمهم أحد، لماذا؟ لأن الأزهر وقتها كان قويا بما فيه الكفاية، ولم يكن ضعيفا يحسب كل أغنية عدوا، أم كلثوم التى تضايق الشيوخ من غناء الشيخ إيهاب يونس لأغنيتها خدمت الإسلام أكثر بألف مرة من أكبر شيخ من الذين حاكموا يونس بسبب غنائه، فلا أحد يستطيع أن يؤجج الإيمان بكلمة من كلمات ولد الهدى، ولا أحد يستطيع أن يصل إلى مرحلة المناجاة الخالصة التى وصلت إليها أم كلثوم بأغنية «برضاك يا خالقى» ولا أن يشد الرحال بقلبه «إلى عرفات الله» مثلما فعلت الست، فإن استجوبوك يا شيخ إيهاب وقالوا لك: لماذا تغنى؟ فرد عليهم كما رد محمود درويش على المحتل وقل: «لأنى أغنى».
 
 









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة