عادل السنهورى

"الضاحك الباكي".. سر إعجاب نجيب الريحانى بالشيخ محمد رفعت

الأحد، 20 نوفمبر 2022 07:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
" الشيخ" و"الفنان".. حكاية كانت تلخص صورة وطن وحدوتة مصرية خالصة لا يمكن استنساخها أو تقلبها فى أى وطن آخر.
 
بين ثنائيات الدين والفن والحرية والوطن ترسخت العلاقة بين شيخ بقيمة وقامة محمد رفعت وفنان بقدر وبأهمية نجيب الريحاني.
 
الحالة المصرية الخالصة هى التى جمعت بين أشهر صوت مسلم فى القراءة والآذان وأكثر الفنانين المسيحيين شهرة ومحبة لدى المصريين فى فترة تاريخية انصهر فيها المصريون لتتجلى الصورة المبهرة فى التلاحم والتوحد فى مواجهة المخاطر والتحديات وهى صورة المصرى فقط بكل معتقداته وأفكاره وإيمانه بوطنه فتماهت الأديان فى ثوب الوطن وحق فى الحرية والاستقلال.
 
محطات كثيرة فى حياة الشيخ محمد رفعت والفنان نجيب الريحانى ومواقف فنية وعلاقات إنسانية متعددة ومؤثرة ساهمت فى تكوين صورة مدهشة ومثيرة للرجلين وساعدت فى التقارب الصداقة المتفردة بينهما.
 
هما تقريبا عاشا فى فترة زمنية واحدة وإن كان الشيخ رفعت ولد عام 1882 قبل نجيب الريحانى بحوالى 7 سنوات وتوفى بعد الريحانى بعام واحد فقط- توفى الريحانى عام 1949 والشيخ رفعت عام 1950- فالاثنان ولدا فى أشهر أحياء القاهرة المغربلين وباب الشعرية وتفتح وعيهما على مرحلة تغييرات سياسية واجتماعية وثقافية شديدة الأهمية.. فقد كانت مرحلة مخاض عسيرة المولد لوطن تحت الاحتلال الرسمى للإنجليز والاحتلال الثقافى والدينى والمعنوى للدولة العثمانية وبين الاحتلالين هناك تحت الركام إرهاصات غضب فى طريقه. فبعد مولد الشيخ رفعت بأربع شهور تقريبًا اشتعلت أحداث الثورة العرابية، والمطالبة باستقلال الجيش المصرى، وبالحياة النيابية السليمة، وفى الشهر ذاته سبتمبر من عام 1882 تفشل الثورة لأسبابٍ عديدة، ويحتل الإنجليز مصر بعد هزيمة عرابى، واتهامه بالخيانة فى موقعة التل الكبير، وبعد 12 يومًا من وصول الإنجليز للقاهرة، يعاد تنصيب الخديوى توفيق ابن إسماعيل حاكمًا لمصر مكافأةً له. 
 
وبدأت الحركات الفكرية والسياسية المطالبة بالاستقلال فى الظهور، وعندما بلغ الشيخ رفعت عامه السادس والسابع، - وهى نفس السنة التى ولد فيها الريحاني-كانت أفكار الإمام الشيخ محمد عبده تشغل المجتمع المصرى، الذى عانى من ظلام العثمانيين، فهو واحدٌ من أبرز المجددين فى الفقه الإسلامى فى العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح، وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة؛ وساهم بعلمه، ووعيه، واجتهاده فى تحرير العقل العربى من الجمود الذى أصابه لعدة قرون، كما شارك فى إيقاظ وعى الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهي؛ لمواكبة التطورات السريعة فى العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره فى مختلف النواحى السياسية، والاقتصادية، والثقافية.
 
وفى بدايات القرن العشرين، ومع بلوغ الشيخ محمد رفعت عامه الرابع عشر والخامس عشر، ينضج وعيه لما يحدث حوله فى المجتمع، يظهر الزعيم مصطفى كامل، ودعوته للاستقلال التعليمى، والثقافى، وإنشاء المدارس الأهلية، وإنشاء جامعة أهلية وطنية كرد فعلٍ لسياسة الاحتلال نحو طمس الهوية المصرية، والقضاء على العقلية والفكرية، ثم ظهور الزعيم محمد فريد.
 
ومع نضجه ووعيه الكامل يعيش الشيخ محمد رفعت أحداث ووقائع ثورة 19، وما تمخضت عنه من أفكارٍ وطنية، ووعى جمعى بالقضية الوطنية المصرية، ووأد التفرقة بين عنصرى الشعب من مسيحيين ومسلمين، وتنهض الدعوة إلى الاستقلال الاقتصادى من طلعت حرب باشا، وينهض الفن مع سيد درويش، وبداية المعركة الحقيقية نحو الاستقلال التام من الاحتلال الإنجليزى ويبدأ نجيب الريحانى فى التفاعل مع وقود الثورة لتحقق أعماله الفنية الاستعراضية نجاحا مبهرا وتقض مضاجع الاحتلال ويشارك الجميع فى إذكاء نار الثورة ونورها وروحها بشعلة الفن بتعاون بديع خيرى والريحانى وسائر المسرحيين فى مصر من خلال الاستعراضات التى كانت تقام على المسارح، وخصصها لريحانى فى إثارة الكراهية ضد الاستعمار واذكاء الروح الوطنية.
 
هذه هى المرحلة التاريخية التى عاشها الشيخ المسلم والفنان المسيحى، عاشا فى مجتمع يسعى إلى التغيير فى التعليم، والفن، والثقافة، والاقتصاد، وتأثرا بكل ذلك، وتكونت شخصيتهما، فالشيخ رفعت اعتبره جميع المصريين من كافة الطوائف والديانات المختلفة، صوت التغيير والتعبير عن أحلامهم، حتى لو كان بقراءة القرآن؛ فقد التف حول صوته المسيحيون، واليهود المصريون، قبل المسلمين، واعتبروا صوته هو صوت مصر التى تتوق للحرية إلى العالم، ولم لا؟ فهو أول صوت بشرى يصل للمصريين عبر الراديو.
 
فى عام 1934، شهدت مصر ميلاد الإذاعة اللاسلكية، وافتتحت إرسالها بتلاوة الشيخ محمد رفعت: «إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا». كانت الإذاعة المصرية فى ذلك الوقت بمثابة السحر الآتى عبر الأثير، والقادر على إيصال صوتك لبشرٍ بعيدين عنك بآلاف الكيلومترات، ومن حينها وانطلق صوت الشيخ رفعت كملمحٍ خاص لتلك الإذاعة، ومنذ السنة الأولى تم التعاقد معه لتلاوة القرآن طوال شهر رمضان مقابل مائة جنيهٍ.
 
أصبح صوت الشيخ رفعت علامةً مميزة أيضًا لشهر رمضان، حتى طُلب منه تسجيل الأذان بصوته، وظل هذا الأذان هو المميز لشهر لرمضان على الإذاعة المصرية، ومن بعدها التليفزيون المصرى، وهو نفس الأذان الذى تستخدمه معظم القنوات الفضائية فى رمضان حتى اليوم. وقد استخدم الشيخ فيه مقام السيكا الموسيقى، مما جعله مختلفًا ومميزًا عن أى أذانٍ آخر، حيث جرت العادة أن يرفع الأذان على مقام حجاز.
 
ومن شدة تأثير صوت الشيخ محمد رفعت استخدمت الإذاعات الأجنبية الموجهة تسجيلاته وبثتها ؛ كى تجتذب المستمعين العرب والمسلمين، حتى أصبح صوته مألوفا حتى لدى المستمعين الأجانب.....مقام السيكا؟! أى نعم.
 
وهل تعلم الشيخ محمد رفعت فنون وعلوم الموسيقى؟
بالطبع؛ فالشيخ رفعت كان دارسًا للموسيقى، وعازفًا للعود فى هذا الزمان، لم يكن التدين يرتبط فى أذهان المصريين بالتشدد، أو باعتزال المجتمع، أو بمشايخ الغبرة والنكد، وفتاوى الإرهاب والتكفير، وكراهية كل شيءٍ وتحريمه. فقد كان الشيخ رفعت معبرًا عن زمانه الجميل فى هذا، فحينما أراد الشيخ أن يستزيد من العلم، قرر أن يتعلم الموسيقى، وأن يتدرب على عزف العود حتى أتقنه، ثم حفظ مئات الأدوار، والتواشيح، والقصائد، كما استمع إلى موسيقى بيتهوفين، وشوبان، وموزارت، وفاجنر وغيرهم، وقد أثر ذلك كثيرًا فى طريقته فى التلاوة، فأصبح قادرًا على اختيار المقام الموسيقى المناسب لكل سورةٍ، ولكل آية حتى أنه أتقن الانتقال بين المقامات بصورةٍ لم يستطعها موسيقيون كبار فى ذلك الوقت. 
 
وكان ينشد تواشيح ومدائح نبوية وقصائد، إضافةً إلى تلاوته للقرآن؛ فقد تعلمت منه أم كلثوم، وليلى مراد المقامات، واهتم بشراء الكتب، ودراسة الموسيقى الرقيقة والمقامات الموسيقية، وحفظ العديد من الأوبريتات والسيمفونيات العالمية فى مكتبته. حتى أن هناك مِن الباحثين مَن يذكر أن مَن استمعوا إلى الشيخ وهو يردد بعض القصائد مثل: أراك عصى الدمع، وحقك أنت المنى والطلب، وسلوا قلبى. وارتبط الشيخ بصداقةٍ قويةٍ مع العديد من مبدعى الفن فى هذا الزمان، ومنهم الموسيقار محمد عبد الوهاب، و... نجيب الريحانى.
 
ويذكر أنه فى عام 1938 أو 1939 توقف الشيخ رفعت عن القراءة للإذاعة؛ لأن سعيد لطفى باشا رئيس الإذاعة رفع أجر الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى من 12 جنيهًا إلى 14 جنيهًا فى التلاوة الواحدة، ولم يرفع أجر الشيخ رفعت إلى الرقم نفسه؛ رغم أن الشيخ رفعت افتتح الإذاعة بصوته، ولأنه الصوت الذى إذا غرد يصيب الجسد بالقُشعريرة، والروح بالصفاء، والنفس بالسمو، فقد غضب الكثير من الأقباط، وطالبوا بإعادة الشيخ رفعت إلى قراءة القرآن فى الإذاعة حين تم منعه منها؛ لأنهم يحبون الاستماع إلى سورة مريم بصوته!!
 
ويقول الكاتب الصحفى المصرى الراحل لويس جريس "إن الشيخ رفعت عايش أحداثًا وطنية مهمة، منها فترة الزعيم مصطفى كامل، وواقعة دنشواى، وثورة 1919.وبعيدًا عن الحساسيات الدينية، عندما جئت إلى القاهرة، وجدت عددًا كبيرًا من الأقباط، يسيرون وراء الشيخ محمد رفعت فى كل سرادق يرتل فيه".
 
ويكمل لويس جريس:" أن الشيخ محمد رفعت بتلاوته أدى دورًا وطنيًا مهمًا جدًا أكثر مما فعلته خطب الساسة، أو أغانى المطربين، وقرّب القبطى من المسلم أكثر مما فعلته خطب الساسة، فصوته حنون جدًا، يجعلك إنسانًا رقيقًا تحب من أمامك".
 
ولأنه ابن مرحلةٍ تاريخيةٍ شديدة الأهمية فى تاريخ مصر اجتماعيًا، وسياسيًا، وتنويريًا فقد كان منزله، وهو قارئ القرآن الأول فى مصر والعالم الإسلامى عبارة عن مجمع أديان، وملتقى فنانين، وقساوسة، ورهبان. 
 
الحالة ذاتها عن الريحانى ابن مدرسة الفرير الفرنسية والذى أقبل مبكرا لتعلم اللغة العربية والتعمق فى دراستها وبالتالى بدأ مبكرا فى قراءة القرءان إلى جانب الإنجيل والتوراة وقرأ فى التفاسير وفى الشعر العربى القديم. كل الظروف السياسية والاجتماعية والطقس الثقافى والتنوير كانت بالضرورة تدفع دفعا إلى علاقة صداقة استثنائية بين الرجلين.
 
ذات ليلة عند أحد الأصدقاء يستمع الريحانى إلى تلاوة بصوت الشيخ محمد رفعت، وما كاد صوت الشيخ ينساب إلى صدره حتى صمم الريحانى على لقاء الشيخ، وبالفعل التقى به أكثر من مرة وتصادقا، ويكتشف كل واحد منهما صفات مدهشة فى الآخر، وكما يقول الريحانى فى مذكراته: "أنه رغم صفة الشيخ رفعت كقارئ معروف إلا أنه كان أيضا عالما كبيرا له العديد من الآراء فى مختلف القضايا، وصوته هو الخلود بعينه، صوت له نبرات احتار فى فهمها العلماء، وسألت عبد الوهاب يوما عن سر حلاوة هذا الصوت فقال "إنها منحة إلهية وعبقرية لن تتكرر بعد الآن".
 
"كان الشيخ رفعت يقرأ القرآن فى جامع صغير بشارع درب الجماميز، وكنت أذهب إلى هناك فى عديد من أيام الجمع لأسمع هذا الصوت الخالد الحنون، الذى هز كيانى، وقلب كل معنوياتى وجعلنى أقدس هذه الحنجرة الغالية الخالدة المرهفة وهى ترتل أجمل المعانى وأرقها وأحلاها".
 
ويختتم الريحانى حديثه عن الشيخ رفعت: «كانت هناك هواية تربطنى بالشيخ رفعت فأنا وهو كنا نحب ركوب الحنطور وكنت أدعوه كثيرا للتنزه فى حنطورى، أن صوت الشيخ رفعت كما قال لى عبدالوهاب صوت من معدن خاص لن يجود به الزمن بعد ذلك».
 
ويستطرد الريحاني: كان الشيخ رفعت يقرأ القرآن فى جامع صغير بشارع درب الجماميز، وكنت أذهب إلى هناك فى عديد من أيام الجمع لأسمع هذا الصوت الخالد الحنون الذى هز كيانى وقلب كل معنوياتى.. وكانت هناك هواية تربطنى بالشيخ رفعت، فأنا وهو كنا نحب ركوب الحنطور، وكنت أدعوه كثيرا للتنزه فى حنطورى... هذه الفسحة كانت تتم أسبوعيا تقريبا.
 
عرف الشيخ رفعت صديقه عن قرب، فلم يكن مجرد "مشخصاتي" -بلغة أهل هذا العصر- مجرد ممثل على المرح أو فى السينما التى لم يحبها بل موسوعى فى الفن والحياة واللغة العربية وفى أمور كثيرة فى الدين. قرأ جميع الكتب السماويَّة. محبا للمعرفة عاشقا للقراءة. فتحابا وتصادقا حتى الساعات الأخيرة من حياة كل منهما. 
مات الريحانى قبل صديقه الذى كان يعانى المرض والسقم. وبعد ساعات من رحيله، دخل محرر آخر ساعة شقته بعمارة الإيموبليا ليسجل ما بقى من أغراضه، فوجد أربعة وأربعين بدلة وعشرين بيجامة وجلبابا وخمسة عشر حذاء، ومصحفًا وإنجيلًا وصورة للقديسة تريزا، التى كان يتخذها شفيعة له، إضافة إلى مذكرات تشرشل بالفرنسية وكتاب حسن البيان فى تفسير مفردات القرآن، وألفية ابن مالك، وبعض مسرحيات روايات لشكسبير. بالإضافة إلى وجود كلبته ريتا، التى امتنعت عن الطعام حزنًا على فراقه، وما لبث الا أن نفقت بعده بيومين أو ثلاثة.
 
علاقة الشيخ والفنان عندما يتم رصدها فى عمل فنى فلابد من الاهتمام والاشادة به. وهذه العلاقة الفريدة يذكرنا بها حاليا مسلسل " الضاحك الباكي" الذى كتبه الصديق محمد الغيطى وأخرجه محمد فاضل ويلعب بطولته عمرو عبد الجليل وفردوس عبد الحميد. فنجيب الريحانى قصة غير عادية تحتاج إلى أكثر من كتاب ومسلسل، فسيرة الريحانى مليئة بالمواقف والمحطات والعلاقات والأحداث ويكفى مسلسل " الضاحك الباكي" أنه تصدى لسيرة الريحانى. ولا يمكن انكار أن أى عمل فنى معرض للنقد فالكمال لله وحده. لكن بشرط أن يكون النقد موضوعيا ومنزها عن الأغراض والمشاحنات الشخصية والتربص بالعمل حتى قبل أن يعرض.
 
وهذا العمل تحديدا تعرض لملابسات وظروف صعبة كثيرة منذ عم 2010 وواجهته مصاعب فى الإنتاج بسبب الظروف السياسية والأمنية التى مرت بها البلاد. وهنا يستحق كاتبه محمد الغيطى التحية على الإصرار على تقديم العمل وظهوره على الشاشة بعد حوالى 11 عاما.
 
وعلينا أن نعترف بأن التصدى لكتابة السيرة الذاتية محفوفة بالمخاطر وأقل هذه المخاطر هو انحياز الكاتب لصاحب السيرة وإظهاره منزها عن الأخطاء والهفوات الإنسانية الطبيعية. وأكبرها عدم إقناع الممثل الذى يقوم بدور صاحب أو صاحبة السيرة الذاتية للمشاهدين وابتعاده عن روح أو مكنون الشخصية. 
بالتأكيد لنا وقفة أخرى عقب انتهاء المسلسل الذى لا بد من تشجيعه والاحتفاء بها مهما كانت الملاحظات.
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة